أمتعنا الثلاثي مريم ناعوم (كاتبة السيناريو)، كاملة أبو ذكري (المخرجة)، نيللي كريم (البطلة) هذا العام في رمضان بمسلسل "سجن النسا" كما أمتعونا العام الماضي بمسلسل "ذات". والمسلسل هذا العام مأخوذ عن مسرحية للكاتبة الراحلة فتحية العسال، ولكن السيناريو (الذي كتبته مريم نعوم مع هالة الزغندي) أخذه إلى آفاق أرحب تماماً كما فعلت نعوم العام الماضي بمسلسل "ذات" فأثبتت أنها كاتبة نسوية من الطراز الأول، وإن لم تحظ أعمالها بالتفات على هذا المستوى. فلقد غرقت للأسف في اعتراضات هامشية من قبل العاملات في سجن القناطر اللواتي لم يرن في عملها إلا تشويه لسمعتهن. ومع أن كلا المسلسلين حظي بنسبة مشاهدة ومتابعة جماهيرية عالية تخطت مشاهدة بعض المسلسلات الرمضانية التي أتت بنجوم لوامع، إلا أن تحليل أعمال مريم نعوم من منظور نسوي مازال غائباً.
ويمكن النظر للأعمال الفنية من منظورات تحليلية مختلفة ولكن اختيار المنظور النسوي يأتى على خلفية اجتياز المسلسل لاختبار بكدال (Bechdel Test) والذي يضع ثلاث قواعد للتأكد من عدم انحياز العمل الفني على أساس الجندر: (أ) أن يكون بالعمل أكثر من شخصية نسائية لهن أسماء محددة، (ب) أن تتحدث النساء إلى بعضهن البعض، (ج) ألا يقتصر حديثهن على العلاقات العاطفية مع الرجال. واختبار بكدال الذي بدأ استخدامه من قبل النسويات في ثمانينات القرن العشرين لم يعد مقتصراً عليهن، فلقد بدأت السينما السويدية باستخدامه كمعايير لتقييم الأفلام. فكما تقيم الأعمال السينمائية قبل العرض لتحديد مدى تناسبها مع فئات عمرية مختلفة، يستخدم اختبار بكدال لتقييم الانحياز للعمل على أساس الجندر من عدمه. لم يجتز مسلسل سجن النسا اختبار بكدال فحسب، بل وتخطاه بمراحل. فجل شخصيات العمل من النساء ولهن أسماء محددة بل وملامح شخصية واضحة، وعلى مدار الثلاثين حلقة تتحدث النساء إلى بعضهن البعض عن مختلف نواحي حياتهن، فيتطرقن إلى العلاقات العاطفية ويتجاوزنها.
يلقي المسلسل الضوء على قبس من حياة السجينات في سجن النساء الشهير بالقناطر الخيرية، حيث استطاعت كاتبة السيناريو تمثيل شريحة واسعة من نزيلات السجن الشهير: فمنهن المتهمة بتجارة المخدرات، أو بالدعارة، أو بالقتل، أو بالسرقة .. إلخ. وعلى مدار ثلاثين حلقة تحكى وقائع حياتهن، والملابسات التى أدت إلى إيداعهن داخل السجن. والمشاهد للمسلسل ينتبه إلى عدة محاور يلح عليها السيناريو:
(1) الحالة النفسية لنزيلات السجن؛ و(2) العلاقة بين النساء والنساء كما يمثلها المسلسل؛ و(3) العلاقة بين الرجال والنساء كما يمثلها المسلسل.
من الواضح أن نزيلات سجن النساء بالقناطر يعانين من حالات نفسية مرضية تتفاوت في حدتها من الاكتئاب الحاد والشامل الذي تمثله حياة، إلى الجنون اللحظي الذي تمثله رضا. فحياة (دنيا ماهر) المهمومة بالمحافظة على عائلتها وسط المشاكل المجتمعية الخانقة (مثل التلوث الذي يطال الخضروات والفاكهة التي تضعها على مائدة العائلة، والتحرش الجنسي الذي تتعرض له واحتمال تعرض الأطفال له) لا تجد خلاصاً لتلك المشاكل المحيطة بها من كل جانب إلا بتسميم العائلة أجمعها للخلاص من الحياة الدنيا. وخاصة بعد أن فشل الزوج في تقدير الحال النفسية التي تمر بها، واعتقاده بأنها ممسوسة (أي بها مس من جان) مما أدى إلى علاجها بالطرق التقليدية (حلقة زار) التي لم تأت بالنتيجة المنشودة. وحين تفشل حياة في الانتحار المُخلَّص مع عائلتها ينتهي بها المطاف إلى سجن النساء بالقناطر سعيدة بنجاة عائلتها (ووالدتها) من المعاناة الحياتية ومتشوقة للحاق بهم.
كما قدم المسلسل نموذجا للجنون اللحظي الذي تمثل في رضا (روبي) الفتاة الريفية التي جاءت من قريتها لتخدم في البيوت القاهرية من أجل أن توفر أسباب الحياة لعائلتها، وتساهم في ترقي أخوتها الصبيان في مجال التعليم. لم تكن رضا ترغب في العمل بالقاهرة، ولكن الظروف القهرية اضطرتها إليه، ورغبت في العودة إلى قريتها بعد تجربتها الأولى المريرة في القاهرة، ولكنها اضطرت إلى الاستمرار لتساعد عائلتها مادياً، وانتهى بها المطاف في كنف عائلة تحيطها بالرعاية والاهتمام وتبادلهم مثلها. ولكن فتاة العائلة المدللة (والقريبة منها في السن) كانت لديها علاقة ملتبسة برضا. فدليلة الفتاة الجامعية المتفتحة مستقطبة ما بين طبقتها الاجتماعية التي تملي عليها معاملة طبقية لرضا، وما بين تفتحها الذهني الذي يملي عليها معاملة نِدّية مع خادمتها. الصراع داخل ذهن دليلة ينعكس في معاملتها لرضا التي تحتار في فهمه وتعتبر تصرفات دليلة تجاهها كمن "بترازي فياه" وحين يبلغ المدى منتهاه، تفقد رضا صوابها لحظياً وتشعل النيران لتحترق دليلة. ولبشاعة جريمتها من منظور طبقي، يتم تطبيق حكم الإعدام على حياة بالرغم من أنها ليست أقدم المحكوم عليهن بالإعدام من نزيلات السجن.
والعلاقة بين الرجال والنساء هي من أهم محاور هذا العمل المتميز، فغالية (نيللي كريم) بطلة المسلسل، تعمل في السجن كسجانة، ولكنها تنقلب إلى سجينة بسبب رجلها (أحمد داوود) الذي يستغلها (وبلغة النسويات يسيء إليها) مادياً ولكنها تتقبله حتى بعد أن يتركها ليتزوج من هي أكثر ثراءً منها، فغالية ليست اسماً على مسمى على الأقل بالنسبة لرجلها، بل هي مجرد "الهبلة" (أي الساذجة بالعامية المصرية) بالنسبة لرجلها صابر "الواطي" (منعدم الأخلاق بالتعبير المصري الدارج) فعلى مقدار تدنيه الخلقي تكون سذاجتها، ولذا فإنها ليست غالية وإنما هابلة. حين يقتل صابر حماه السابق، يترك غالية لتدفع ثمن فعلته البشعة، وتساعده في ذلك "صديقة" غالية وعشيقة صابر : نوارة. فتشهد نوارة على غالية، وتصر على شهادتها لتلقي بغالية في غياهب السجن، بينما تتزوج هي بصابر ويتمتعان بحياتهما بعيداً عن غالية. مما ينقلنا إلى محور علاقة النساء بالنساء، ولكن قبل أن نترك محور علاقة النساء بالرجال يجب أن ننوه أن كاتبة السيناريو استطاعت أن ترسم تلك العلاقة على أكثر من صعيد لعل أهمها، علاقة رضا بوالدها وإخوتها الصبيان. فوالد رضا يلقي بها في القاهرة الكبيرة وهي القروية الساذجة من أجل مساعدته في تعليم إخوتها "الصبيان" وحين يتقدم لخطبة رضا شاب عصامي مشهود له بالأخلاق الحسنة، يرفض والدها تزويجها ويوضح بدون خجل أنه يحتاج إلى مرتبها الشهري ليعينه على تربية وتعليم إخوتها. وتحاول رضا تجاوز اعتراض والدها على زواجها باستجلاب موافقة خطيبها على أن تستمر في عملها حتى تعين والدها على النفقات، ولكن الأحداث تتسارع وتنتهي بها إلى سجن النسا. ونرى في هذا الموقف إساءة من الوالد تجاه ابنته الكبرى، حيث يقف في طريق مستقبل تستقل فيه بحياتها وتنهي حالة التبعية التامة التي تعيشها. وتطرح كاتبة السيناريو مثلاً آخر لإساءة الرجال إلى النساء، فعزيزة (سلوى خطاب) تاجرة المخدرات تدخل السجن مراراً وتكراراً فداءً لزوجها، وحينما ترسل إليه بإحدى الفتيات ليرعاها، يتزوجها "الحاج" حجاج متجاوزاً مشاعر زوجته الوفية والمضحية. وفي حوار ذكي تعبر عزيزة بعزة نفس عن كرامتها المجروحة، في ذات الوقت تنتقم من الفتاة التي خانت عهدها. كما أن عزيزة تعيد حجاج إلى حجمه الطبيعي مجرد صبي رفعته هي إلى مصاف الحج زوجها، وفدته بسنوات السجن، ولكنه لم يحفظ الجميل.
العلاقة بين النساء في مسلسل سجن النسا علاقة ملتبسة وواقعية. فمشاعر الغيرة متمثلة في مواقف عدة: مثلا غيرة نوارة من محبة صابر لغالية، أو غيرة عزيزة من زوجة زوجها الحاج حجاج، أو غيرة دليلة من خادمتها رضا. فالنساء يتنافسن على حب الرجال، أو على حب الظهور. وهذا جانب أجادت كاتبة السيناريو إظهاره بتلقائية فرضتها الأحداث وبدون مبالغة في السرد أو العرض، وعلى الجانب الآخر أظهرت كاتبة السيناريو مشاعر المحبة العميقة بين النساء داخل السجن وخارجه. فعلى سبيل المثال: أم نوارة (صديقة أم غالية وجارتها) تتبنى غالية وتعبر باستمرار عن مشاعر الأمومة نحوها بالرغم من خيانة ابنتها نوارة لغالية. تحاول أم نوارة تجاوز خيانة ابنتها (نوارة) لابنتها التي ترعاها (غالية) وتبقي على علاقة متوازنة مع الاثنتين. فمثلاً حين يموت ابن غالية تهاجم أم نوراة وتصيبها في لحظة جنون خاطفة، ولكن أم نوارة تتفهم مشاعر غالية وتحاول حمايتها أمام مأمور السجن. كما أن النزيلات تربطهن علاقة وثيقة بالرغم من الفروق الطبقية أو المعيشية أو المالية. فالسجينة الملقبة ببكيزة (نسبة إلى المسلسل الشهير: بكيزة وزعلول) إشارة إلى طبقتها الاجتماعية المتميزة ترتبط بغالية ارتباطاً عاطفياً بحيث تطلب من ابنتها تبني ابن غالية مؤقتاً حتى تتم والدته مدة حبسها. وعندما تعترض الابنة نظراً للتفاوت الطبقي بينهما تنهاها الأم مصممة أنه لا تفاوت طبقياً داخل السجن. وتشير أحداث المسلسل إلى العلاقة التي تربط بين السجينات الأكثر ثراءً والأخريات الأقل حظًّا في الثراء، حيث تعمل الأخريات في خدمة ثريات النزيلات في مقابل الغذاء والمال والسجائر والحماية. ولكن طبيعة تلك العلاقة تختلف عن مثيلاتها خارج السجن، فهي ترقى إلى مصاف التبني الذي تصونه معظم السجينات وإن شذت عن ذلك بعضهن.
نجحت كاتبة السيناريو في رسم مسلسل ذي شجون، مسلسل مشحون بالعواطف الإنسانية (حلوها ومرها) مسلسل متشعب الشخصيات، والأحداث، والعلاقات، والوقائع بحيث يصعب على أي تحليل أن يتناول جميع جوانبه. فمع تركيزنا على ما اخترناه من محاور أغفلنا سرد علاقة نزيلات عنبر الآداب واللواتي أمتعننا باثنين من أفضل شخصيات العمل: دلال وزينات. دلال (درة) الفتاة الخجولة التي تتحول من مجرد فتاحة (كما في الأفلام الأبيض والأسود، والتي يقتصر عملها على مناغشة زبائن الملاهي الليلية كي ينفقوا على شراء المشروبات الكحولية) إلى فتاة ليل، ثم إلى قوادة تدير شبكة إقليمية للدعارة. وزينات (نسرين أمين) فتاة الليل القادمة من القرية إلى متاهات القاهرة، الفتاة التي تسرق روحها حين تسرق كليتها، فتنتهي إلى "كوم عظم" لا تشفع حتى في عملها كفتاة ليل، فتختار أن تبلغ عن نفسها لتعود إلى سجن النسا، وتموت وابتسامة غامضة تزين شفتيها.
شخصيات كثيرة قدمتها كاتبة السيناريو في هذا العمل المتميز الذي شد انتباه المشاهدين وأشاد به النقاد بالرغم من زحمة الأعمال الفنية التي توجتها أسماء مضيئة في سماء الفن. وقد يتساءل البعض كيف استطاع المسلسل التقدم رغم اشتداد المنافسة في هذا الموسم الرمضاني؟ أعتقد أن التصاق كاتبة السيناريو (مريم نعوم) بالواقع، وتقديمها لنماذج حقيقة عميقة بعيدة عن الشخصيات الكارتونية (التي تتراوح ما بين الخير والشرير) وتنوع ما تطرحه من نماذج هو ما زاد من إقبال الجماهير على مشاهدة المسلسل. ولنا أن نضيف أن مريم نعوم تقدم فنّاً نسويّاً رفيع المستوى يجتاز اختبار بكدال ويتجاوزه، فنًا يطرح قضايا المجتمع بكل شفافية وبدون مغالاة. فالقضية النسوية مرهونة بالعلاقة بين الرجال والنساء في مجتمعاتنا من جانب، والعلاقة بين النساء والنساء من جانب آخر، ولتلك العلاقات المتشابكة تأثيرات قوية على الحالة النفسية للنساء في مجتمعاتنا.